تحالف من أجل فلسطين !
اصطحبت أبنائي لأُسرِّي عنهم وأرفِّههم، وكنت بنفسي مع ابنتي الصغرى وأركب معها في الألعاب مع فارق السن الكبير، وكنت أقول: سيراني بعض من يعرفني، وقد يعجب أن هذا الرجل الكبير والخطيب المحاضر المعروف للناس يمسك بابنةٍ صغيرةٍ ويلهو معها ويلعب، وكنت فرحًا بذلك.
وبعد هذه الحصة الترفيهية شاهدت الأخبار، فرأيت صورًا لثلاثة أطفال رضعٍ لا يزيد طول الواحد منهم عن ذراع، كلهم موتى من آثار إجرام الصهاينة وعدوانهم على غزة، ثم صورًا لأربعة أطفال آخرين نالهم القصف المجرم وهم يلعبون ويلهون، والعدد في ازدياد. وهنا قارنت بين طفولة وطفولة، وبين حال وحال، ولكني رغم ما رأيت لن أقف للبكاء والحزن، وإن كان ذلك أمرًا مطلوبًا وحسًّا غائبًا وشعورًا مفتقدًا عن الكثيرين منا. ولكني أود أن أشير إلى شيء من معاناة إخواننا في فلسطين المحتلة، وذلك في وقفات:
الوقفة الأولى: ليست هذه الأحداث وليدة البارحة ولا وليدة الحصار القريب ولا وليدة الخيار الإسلامي الذي اختاره شعب فلسطين في الانتخابات وعوقب عليه، بل امتد إلى عقودٍ متطاولة تزحف أيامها وأعوامها لتصبح معدودة بالنسبة للقرن، فقد تجاوزنا نصف قرنٍ واقتربنا من ثلاثة أرباع القرن.
الوقفة الثانية: حال أطفال فلسطين، فهناك ثمانية وتسعون بالمائة (98%) من أطفال فلسطين يتعرضون لمصائب الحرب، ثمانية وتسعون بالمائة ليست نسبة نجاح بل نسبة معاناة.
وفي رسالة للماجستير قام بها غربي ليس بمسلمٍ في جامعة لا تمتُّ بعروبتنا المنكسرة ولا لشهامتنا الغائبة بصلة، يقول: "إنهم يتعرضون لغازات القنابل المسيلة للدموع، يرون بأعينهم بيوتهم وهي تُفتش بل وهي تهدم، ويستمعون يوميًّا إلى إطلاق النار، وهم يتعرضون إلى خمسة أضعاف ما يتعرض إليه أي طفل في العام من المعاناة". ونعجب إن قلنا -وبناء على مسح صحي لأطفال غزة-: إن نسبة الأطفال -بالمقياس العالمي للطفولة- يبلغ في غزة (47%) من عدد السكان. فعندما نرى تلك الطفولة تُسحق بالإجرام والبغي والعدوان، نستحضر قول الحق جلَّ وعلا: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة: 9]. فلن نجد صراخًا يستدعي الإنسانية، أو يُظهر براءة الطفولة، أو ينبه على اتفاقيات جنيف، أو يذكر أوهام وأحلام وسراب السلام المخادع، بل الحق قول الحق جل وعلا: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 98].
الوقفة الثالثة: أن العدوان لا يرتبط بما بالرد على صواريخ المجاهدين المقاومين في فلسطين، فقد ذكر تقرير صدر قبل عام ونصف عن مندوب الأمم المتحدة الخاص بفلسطين الأسباب الواقعية فيقول: "إن وجود الجدار العازل والتوسع في المستعمرات -وأعجب عندما يستخدم غير المسلم كلمة المستعمرات ونستخدم نحن المستوطنات كأنها وطنٌ لمن يبني فيها- ونقاط التفتيش وسياسة الإغلاق والتوغل العسكري المستمر تتولد عنه نتائج بالغة الخطورة بالنسبة للحياة الاقتصادية والنسيج الاجتماعي". ولم أسمع في تقرير هذا الرجل حديثًا عن تلك الصواريخ الموصوفة بالعبثية أو غيرها.
وها هو كبير مجرمي الحرب الصهاينة رئيس الكيان الغاصب يقول بلغة واضحة: "على إسرائيل أن تستخدم كل وسائل التخويف من أجل زرع الخوف في أطفال فلسطين". إنهم يريدون جيلاً خائفًا خانعًا، ولا ينتظرون لذلك سببًا ولا مبررًا.
الوقفة الرابعة: عندما نذكر المعاناة والمأساة نستطيع أن نعبر عن شيء من العاطفة تجاهها فنتألم، وقد نذرف بعض دمعات عصية، لكننا عندما نرى أولئك الأطفال وهم أبطال، ونرى أولئك الأطفال وهم رجال، ونراهم يصعدون المنابر ليقولوا لنا بلسان الحال ويعلمونا بالواقع كيف يكون التعبير عن الحقيقة والقيام بالواجب:
يا تلاميذ غـزة علمـونا بعـض ما عنـدكم فنحـن نسينـا
علمونا بأن نكـون رجـالاً فلدينا الرجـال صـاروا عجينـا
علمونا كيـف الحجـارة تغدو بيـدي الأطفـال ماسًا ثمينـا
كيف تغدو دراجـة الطفـل وشريط الحريـر يغـدو كمينـا
نحن أهل الحساب والجمع والطرح فخوضوا حروبكم واتركـونا
قـد لزمنـا جحـورنا وطلبنـا منكـم أن تقاتلـوا التنينـا
يا تلاميـذ غــزة لا تبالـوا بإذاعاتنـا ولا تسمعـونــا
علمونا فن التشبث بالأرض ولا تتركـوا الأقصــى حزينـا
لقد أدوا دورهم صغارًا وكبارًا، رجالاً ونساءً، رفعوا رءوسهم في وقت نُكست فيه جُلّ الرءوس، شرعوا للموت صدورهم في الوقت الذي اختبأت فيه الجيوش.
الوقفة الخامسة: إن كل ما قلته خطأ لا ينبغي أن يكون على هذا الوجه. لماذا؟ لسان حالنا يقول: لا تقتلوا الأطفال لكن الأمر أهون إن قتلتم النساء والرجال، وقتلتم الشيوخ والكبار، قد نترك هذا الحديث ونقول: لا تقتلوا أحدًا وليستمر الحصار، قد نكون أعلى من ذلك فنقول: اكسروا الحصار وليبقى الاحتلال. تراجعٌ مذهلٌ لم نعد نملك فيه مواضع أقدامنا، لم نعد نملك فيه تفكيرنا، لم نعد نستنطق فيه حقيقة إيماننا ويقيننا، لقد تغيرت كثيرٌ من الظروف والأحوال ولغة الإعلام.
فلنسأل أين قلوبنا وحزنها؟ أين عيوننا ودمعها؟ أين ألسنتنا وخطابها؟ أين إعلامنا ومشاركته؟ أين نحن من كل ذلك؟ ألم نسمع الصراخ والأنين؟! إنه يصم آذاننا. ألم نرَ المآسي الأحزان؟ إنها في كل وقت ملء عيوننا.
زفـراتكم من حولنـا تتصعـد *** وصراخكـم في صمتنا يتبدد
ذبتم على وهج الرصاص ولم نزل *** لعـدونا وعـدوكم نتـودد
تتـرقبـون قــرار مؤتمراتنـا *** بشـرى لكم فقرارها سينـدِّد
ولسـوف يحلف حالفٌ من قومنا *** أن الأسـى من أجـلكم يتجدد
هل لدينا غير هذا؟! للأسف غير المسلمين يتحدثون ويقولون على الأقل كلامًا يعبر عن الرفض، ويقومون بعملٍ في الميدان بالإعانة والمساعدة، ونحن ما زلنا نفك المعبر أو نغلقه، ما زلنا نقول: هل نستمر أم نتوقف؟ صورٌ محزنة مؤلمة، وكثيرًا ما أقف مع السؤال المهم: لماذا كل هذا الكلام؟ وهذا يقودنا إلى الوقفة السادسة.
الوقفة السادسة: الخير في أمة محمد r، وإن حقيقة التصوير الذي ضربه المصطفى عليه الصلاة والسلام بأمثلة كثيرة يبعث فينا روحًا لا بُدَّ أن تبقى حية في قلوبنا "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"[1]. نحن بحاجة لذكر قضيتنا وقدسنا ومسرى نبينا، ونعيش وخز الألم القليل لننطلق من شعور الجسد الواحد لنقوم بعمل فعليٍّ حقيقي، أحسب أنه سيخفف عنا شيئًا من معاناتنا.
أدعوكم -وهذا يخفف عني شيئًا من معاناتي ويشعرني بشيء من إبراء ذمتي- جميعًا إلى أن ننشئ مشروعاً نسميه (مشروع التحالف مع فلسطين)، نقوم فيه من خلال وسائل الاتصال الحديثة (هاتف، قنوات فضائية، مواقع إنترنت، ...) بإعلان تحالفنا مع أهلنا في فلسطين ووقوفنا معهم؛ أطفالاً مع أطفال، ونساءً مع النساء، ورجالاً مع الرجال، وأسرًا مع الأسر.. تحالفٌ معنوي، اتصلوا بهم والاتصال متاح، والوصول إلى الأرقام سهل؛ ليتعلم أبناؤنا أن لا يدخلوا إلى مواقع الإنترنت ليترفهوا ويتسلوا بل ليخاطبوا إخوانهم هناك، ويقيموا معهم علاقات أخوة إسلامية حقيقية، ليكون لنا في كل بيت من فلسطين إخوة، وهذا قليلٌ من كثير واجب، وله أثر عظيم لا تتخيلونه. فهم، وكما قال لي أحدهم في اتصالٍ من غزة: تحدثوا عنا واذكرونا، فنحن نستمع إليكم ونعول عليكم. فاستحييت أن يطلبوا منا كلامًا ولا نجود به، وأن يطلبوا منا مدادًا ولا نسطره، وهم يبذلون الدماء ويكتبون بها سطور العزة والشرف. صدقوني إن كلمة في أقصى الصين من مسلم يقول: "إني أحب فلسطين" لها أثرها، أفنعجز أن نتواصل؟! أتمنى أن لا يقرأ كلامي أحد إلا ويعزم على أن يمد جسرًا للتواصل مع أهلنا في فلسطين، فبدلاً من أن نصوِّت لستار أكاديمي فلنتصل بإخواننا ونشدّ أزرهم. كما يمكن أن يمتد التحالف ليكون تحالفًا ماديًّا يقدم فيه كل منا ما يستطيعه ليقوم بواجبه.
أحبابنا إني أغالـب حسرة *** مشبوبة وعلى الأسى أتجلـد
نظرات أعينكم تعذبني فلا *** عيشي يطيب ولا جفوني ترقد
تجري دماء الأبرياء على الثرى *** نهرًا وعالمنا المخدر يشهـد
إني لأبصر وجـه طفـلٍ تائهٍ *** وسؤاله الحيران أين المرشد
يبكي ولا أمٌّ تكفكف دمعـه *** يشكو وليس له أبٌ يتودد
أفلا نعطيه أمًّا تتصل به بالهاتف؟ أفلا نعطيه أبًا يسأل عنه ولو بوسيلة حاسب آلي؟ أفلا نستطيع أن نقول نحن معكم وإن عجزنا أن نكون بينكم؟ أفلا نستطيع أن نقول إننا نسمع أخباركم ونتأثر بها وإن كنا عاجزين أن نغيِّر واقعكم؟.. قليلٌ من كثير.
وقفة أخيرة: لاعبٌ رياضيٌ كتب الجملة الشهيرة (تعاطفًا مع غزة) ما زال حديث وسائل الإعلام إلى يومنا، ما الذي صنعه؟ كتب جملة ورفع قميصًا، قميصه هذا بيع في مزاد علني بمبلغٍ كبيرٍ لأجل فلسطين. قليلةٌ هي الأفعال التي يمكن إذا قدمناها أن تعطي أثرًا كبيرًا. تابعتُ الأخبار فوجدت أطفال غزة عملوا مهرجانًا لتكريم هذا اللاعب الكروي، لو أن كل واحدًا منهم ربط قلبه بتلك القضية والأخوة الإيمانية والقضية العقدية الإسلامية، لكان لنا حالٌ غير ذلك {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 105]. وثقتنا بالله U لا تنفصم عراها والعاقبة للمتقين {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88].
أسأل الله I أن يفرِّج عن إخواننا في فلسطين وفي العراق وفي أفغانستان وفي كل مكان، يا رب العالمين