بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.....
الأمة الإسلامية وأخطار القطرية عليها
كتب: د / غازي التوبة
26/04/1431 الموافق 10/04/2010
لم يكن هناك أمة مكونة في الجزيرة العربية عندما نزل الوحي على الرسول في غارحراء ، بل كانت قبائل متناحرة، ولهجات مختلفة، وأديان متعددة، وآمال متصاعدة، وكياناتسياسية على أطراف الجزيرة العربية مستغلة من قبل الدول الكبرى المجاورةوهما:
كيانا الغساسنة والمناذرة في الشام والحيرة ، اللذان كانا مرتبطين بدولتيالروم والفرس، وعندما توفي الرسول ترك على مستوى الجزيرة العربية كلها أمة موحدةتدين بكتاب واحد، وتتجه إلى قبلة واحدة، وتعظم ربا واحداً، وتتبع شريعة واحدة،وتقودها قيادة سياسية واحدة ··· الخ·
ثم توسعت الأرض التي تعيش عليها هذه الأمةلتشمل بلاداً مجاورة كبلاد الشام وفارس في آسيا، ومصر في أفريقيا··· إلخ···
كماصهرت هذه الأمة في بوتقتها شعوباً أخرى مثل شعوب الفرس والترك والروم والبربروالكرد ··· إلخ·· ثم استوعبت هذه الأمة الحضارات والعلوم والثقافات التي كانتموجودة في الأراضي التي توسعت فيها وشكلتّ منها حضارة واحدة ذات شخصية مستقلة ، وهيإحدى حضارات التاريخ البشري البارزة·
واستمرت هذه الأمة موجودة فاعلة على مدارالقرون السابقة، وقد تعرضت في مسيرتها إلى أخطار خارجية وداخلية عدة، وأبرز الأخطارالخارجية التي تعرضت لها الأمة: الحروب الصليبية ، وحرب المغول، فقد استمرت الحروبالصليبية قرنين من الزمان، وساهمت فيها كل دول أوروبا وشعوبها من خلال سبع حملات،واحتل المقاتلون أراضي واسعة في قلب العالم الإسلامي، لكن الأمة الإسلامية استطاعتفي النهاية التغلب عليهم وإخراجهم من الأراضي الإسلامية ، كما استطاعت إيقاف الغزوالمغولي بعد أن انتصرت عليه في معركة عين جالوت، وكان المد المغولي قبلها قد اكتسحجميع بلدان آسيا ، ودمر بغداد عاصمة الخلافة العباسية العام 656 هـ·
وبالإضافة إلىتلك الأخطار العسكرية الخارجية التي هددت الأمة برزت أخطار داخلية هددت عناصر بناءالأمة وعوامل وحدتها الداخلية، ومن ذلك تشكيك فرقة الزنادقة في القرآن الكريم،وإظهار تناقض آياته، مما اقتضى عالماً مثلأحمد بن حنبلإلى تأليف كتاب فيالرد عليهم،حمل عنوان"رسالة في الرد على الزنادقة والجهمية" واقتضى تشكيلديوان الزنادقة في خلافة "المهدي العباسي"من أجل المتابعة القضائية لهم ممايشير إلى استفحال خطرهم·
ومن الأخطار الداخلية الأخرى التي هددت وحدة الأمة"الشعوبية" والتي قامت على استصغار الجنس العربي والاستخفاف به، والتهوين منشأنه اللغة العربية والبيان العربي ؛ مما دفع كاتباً مثل الجاحظ إلى تأليف أكثر منكتاب في الرد على هذه الشبه وتفنيدها ومنها كتاب"البيان والتبين" الذي أوضحفيه أصول البيان العربي بالمقارنة مع بيان الأمم الأخرى، واعتدال الأسس التي يقومعليها هذا البيان العربي وجمالها·
ومن الأخطار الداخلية أيضا التشكيك في السنة،والتي قامت به فرق مختلفة ومنها المعتزلة، مما جعل الشافعي يخصص جزءا من كتابه >الرسالة< لتفنيد رأي الذين يقولون بكفاية القرآن الكريم والاستغناء عن السنةوالرد عليهم بقوله: إن القرآن الكريم الذي أوجب طاعة الله وجه إلى طاعة الرسول وأسس - بالتالي- إلى وجود السنة وقيام شرعيتها·
ومن الأخطار الداخلية أيضا الفرقةالسياسية التي تجلت بقيام كيانات سياسية عدة حتى في عهود القوة الإسلامية أثناءالخلافة العباسية، من مثل: دولة البويهيين، والسلجوقيين،والحمدانيين،والإخشيديين،والطولونيين، والمرابطين، والموحدين، والطاهرين ··· إلخ·
لكن الأمة استطاعتالتغلب على كل تلك المصاعب والأخطار والهزات والتشكيكات بالوحدة الثقافية التي عززتبناءها الداخلي ونسيجها الاجتماعي، والتي قامت على دعامتين:
الأولى: القرآنوالسنة والعلوم التي ارتبطت بهما ونتجت عنهما·
الثانية: العلماء والفقهاء الذينأفرزتهم الحياة الإسلامية ، وأعطتهم دوراً قيادياً في المجتمع الإسلامي·
أماالدعامة الأولى للوحدة الثقافية فجاءت من معاني القرآن والسنة وحقائقهما وقيمهماومبادئهما التي تدعو إلى التوحيد والتطهّر وتزكية النفس ومكارم الأخلاق وإعمارالدنيا والخوف من مقام الله ونبذ الشرك وإقامة شرع الله واتباع الأنبياء ···إلخ،وقد تطلبت سور القرآن الكريم والأحاديث الشريفة علوماً لحفظهما ولفهمهما وللبناءعليهما..
فمن العلوم التي ارتبطت بالقرآن الكريم أسباب النزول، والمكي والمدني،والناسخ والمنسوخ، وصور الإعجاز، ومدارس التفسير··· إلخ، ومن العلوم التي ارتبطتبالحديث الشريف علوم الجرح والتعديل، والرواية والدراية، ومصطلح الحديث، وطرق تصنيفكتب الحديث ··· إلخ، كما تطلبت سور القرآن الكريم والأحاديث الشريفة الاهتمامباللغة العربية وحفظ اللسان العربي من اللحن والبيان العربي من الانحطاط، فكانتعلوم النحو والصرف، وعلوم البيان والبديع، وعلوم العروض والقوافي، ومعاجم اللغةالتي جمعت مفردات العربية ··· إلخ ..
وقد اقتضت حركة المجتمع ومستجدات الحياة إصدارأحكام شرعية جديدة عليها، وتطلبت هذه الأحكام علوما شرعية تساعد على تقنيتها ، فانبثقعلم أصول الفقه ، ثم علم مقاصد الشريعة ؛ ليكونا أبرز علمين كان الهدف منها المساعدة فيضبط عملية الاجتهاد·
ساهمت حقائق القرآن والسنة التي أشرنا إليها سابقاً فيتوحيد عادات الأمة الإسلامية وتقاليدها في مشارق الأرض ومغاربها، وساعدت على توحيدنظرتها للأشياء المحيطة بها، وساعدت في توحيد ميزانها القيمي، وشاركت في توحيدتفسيرها لأمور ما قبل الحياة وما بعدها ··· إلخ، كما ساعدت العلوم التي ارتبطتبالقرآن الكريم والحديث الشريف واللغة العربية ، والتي ذكرنا بعضها في حفظ نصوصالقرآن والسنة من جهة، وفي اتجاه طريقة موحدة لاستنباط الأحكام الشرعية وتقنينهاضمن منظومة الحلال والحرام والمكروه والمندوب··· إلخ، من جهة ثانية.
أما الدعامةالثانية للوحدة الثقافية فهم العلماء والفقهاء الذين جاءوا من تعظيم الدين للعلم،وثناء القرآن على العلماء، وحض الرسول على التعلّم، واتخاذه مواقف عملية تترجمذلك في أكثر من مناسبة كما حدث مع أسرى بدر حين جعل فداءهم تعليم الكتابة لعدد منالمسلمين· وجاءت من وجود أوقاف غنية تنفق على العلماء ، وعلى طلبة العلم ، وعلى دورالعلم ، وعلى نسخ الكتب ، وعلى إنشاء المكتبات العامة، وقد قام العلماء والفقهاء بحراسةوحدة الأمة الثقافية وتحصينها والسهر عليها ، وإيجاد اللحمة الثقافية التي تدعمالوحدة وتنميها وتوسع ساحتها·
لكن وحدة الأمة تتعرض الآن إلى أخطر تهديد علىمدار القرون الماضية جميعها، وهذا التهديد جاء في الكيانات القطرية التي تسعى إلىتأسيس ثقافي مستقل بها، مما سيؤدي إلى تقسيم الأمة الواحدة إلى أمم متعددة مختلفة،ولكن هذا التأسيس الثقافي للقطرية مرّ بمرحلتين:
الأولى: مرحلة تقسيم الوحدة إلىأمتتين: عربية وتركية ، وقد جاء ذلك على يد دولة الاتحاد والترقي في العام 1908م منالجهة التركية ، وعلى يد الثورة العربية الكبرى العام 1916م من الجهة العربية، ولمتستطع الثورة العربية أن تجمعّ ما كان متفرقاً، بل فرّقت ما كان مجموعاً في اتفاقيةسايكس - بيكو وغيرها، ثم جاء التنظير القومي على يد ساطع الحصري ليرسخ القطرية ؛ ليسلأنه أراد ذلك، بل لأنه جعل الأمة تقوم على عنصري اللغة والتاريخ ، واستبعد الدين منعناصر تكوين الأمة، وهو في ذلك كان متابعا النظرية الألمانية، ولكنه نسي أننا لانستطيع أن نفهم واقع الأمة التي تقطن العالم العربي إلا بالإسلام ؛ لأن الإسلام دخلكل تفصيل حياتها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية···إلخ .. وأننا إذا أردناأن ننتقل بهذه الأمة من واقع التجزئة إلى الوحدة فلابد من الاعتراف بدور الإسلام فيبناء الأمة وتفعيل عناصره، وهو ما لم تقم به القيادة القومية ، فكان بروز القطريةوترسخها، وصار الظن عند عامة الناس بأن التجزئة هي الأصل والوحدة هي الطارئة، مع إنالعكس هو الصحيح·
الثانية: مرحلة التأسيس الثقافي المستقل لكل قطر: اتخذ دعاةالقطرية عدم التقدم باتجاه الوحدة خلال القرن الماضي حجة من أجل اعتبار الوحدةخيالاً ووهماً، واتخذوا ذلك أيضا ذريعة من أجل الترويج للقطرية والتأسيس الثقافيلها ، والذي تجلّى في عوامل عدة منها: طباعة كتب المؤرخين الذين تناولوا تاريخ القطر،وإبراز الرحالة الذين مروّا به وكتبوا عنه، وتعظيم رموز الأدب والشعر المرتبط به،وتزكية تاريخه السابق على الإسلام كالتاريخ الفرعوني والبابلي والكالداني والآشوريوالبربري والسيرياني والفينيقي ، وإنشاء مراكز ومؤسسات ترعى ذلك التاريخ ··· إلخ،ويرافق كل ذلك الاهتمام باللغة العامية والاهتمام بالشعر الشعبي والترويج لشعرائهودواوينهم والاهتمام بالعادات والتقاليد والفولكور الشعبي الخاص بذلك القطر، وإنشاءالمتاحف الخاصة به···إلخ ..
ليس من شك بأن هذا التأسيس الثقافي المستقل لكل قطر علىحدة يتقاطع مع الوحدة الثقافية التي عرفتها الأمة على مدار تاريخها السابق، وهو فيحال استمراره ونجاحه فإنه سيؤدي إلى أخطر ما واجهته أمتنا على مدار تاريخها السابقوهو تحويل الأمة الواحدة إلى أمم متعددة·
المصدر : مجلة الوعي ـ العدد : 487
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]